لا يستطيع منصفٌ إلا أن يؤكد أنّ دولتنا قد جعلت من التنمية البشرية هدفاً أسمى، بوضوح رؤية وإيمان ودأب تحدث عنها القاصي قبل الداني، ومن هنا تعددت وجهات النظر حول القيادة والمهارات التي يجب أن تتوافر في من يضطلع بدور قيادي في أية مؤسسة.
ورغم أنني من الذين يؤمنون بأن المهارات القيادية يمكن تعلمها، ومن الجائز أن يطور الإنسان مهارته التي وهبه الله إياها، في الاتجاه الصحيح ليتمكن من توجيه فريق من الناس لتحقيق هدف معين، إلا أنني في ذات الوقت من المؤمنين بأن القادة المؤثرين في أي مؤسسة أو دائرة، هم عملة نادرة أو هم هبة من الله يمنحها لبعض من الناس لتحمل تبعات قد لا يقدر عليها غيرهم، سواء من الناحية النفسية أو الطاقة البدنية، والاختلاف والتمايز بين البشر هو قانون كوني، واختلاف القدرات بين الناس هو كذلك نظام؛ أراد الله به أن تتوزع أدوار الناس لينضبط الكون، فكل ميسر لما خلق له كل على قدر طاقته، وإلا لو أن كل البشر أصبحوا قادة فمن سيقودون إذا؟
وإذا نظرت حولك لتقرأ سير الناس وميولهم، ستجد أن القيادة الحقيقية قد يجد الفرد فيها نفسه، وقد تكون دون إرادة منه أو رغبة فيها، وهي ليست وليدة المصادفة ولكن جانباً كبيراً منها جاء معه إلى الدنيا، تجده بين إخوانه وأخواته في أسرته الصغيرة، هو المركز وهو من يستشيره باقي أفراد أسرته في شؤونهم، ويلجؤون إليه في الملمات ووقت الكرب والشدة وعند الرغبة في اتخاذ القرار. وهو من يبادر قبل أن يطلب منه، كما أنه المهموم دوماً بشؤون الآخرين، مندفعا إليهم للمساعدة دون تطفل، كما أنك تجده القادر على العطاء بنفسية عالية دون مَنٍّ أو انتظار رد.
انظر حولك سوف تجد أن الله سبحانه وتعالى قد حبى كل أسرة بنفر قليل من هؤلاء دون باقي الأفراد، في حين تجد غيرهم يستهلكهم الشأن الشخصي، ويستمتعون بقيادة غيرهم لها، وينزعجون غاية الانزعاج إذا طلب منهم أن يتصدروا لأخذ قرارات مصيرية. هؤلاء النبت الطيب بهذه الصفات القدرية ـ في جانب كبير منها في أغلبهم ـ هم الذين يتولون القيادة في المؤسسات التي ينتسبون إليها، أو ما يديرونه من مشروعات وما يحملونه من مهام، ويتميزون فيها كذلك.
ولا شك أن الإدارة تختلف عن القيادة، فالمدير الناجح يكتفي بتنفيذ التعليمات بدقة وحذق، ويرضى كل الرضى بذلك، ويمكن الاعتماد عليه دائماً في ذلك، أما القائد فهو صاحب رؤية ومقتحم، ولديه حس يستطيع أن يرى به ما لا يراه الآخرون، وقد يتنبأ بفرص للنجاح يعجز عنها الآخرون، كما أنه قادر على اتخاذ قرارات تتطلب قدراً من المغامرة المحسوبة، يتراجع عنها غيره.
ورغم أنه بشر يصيب ويخطئ، إلا أن ندمه دائماً ندم إيجابي وليس ندماً سلبياً. فالندم الإيجابي هو الذي يحدث عندما يقدم الفرد على اتخاذ قرار قد يكون خاطئا، أما الندم السلبي فهو الندم على عدم اتخاذ قرار بعينه أو ترك فرصة للنجاح لم يتم اقتناصها، وفرق كبير بين الاثنين.
لذا فإن القائد هو من يملك شجاعة تحمل مسؤولية اتخاذ قرارات مصيرية، قد تؤثر على مستقبل المؤسسة في حالة فشلها، وقد تكون نقلة غير مسبوقة وتحدث تطوراً يجعلها في المقدمة إذا نجحت. وهذا ما يبعد عنه الكثيرين، إيثاراً للسلامة وخوفاً من القادم وخنوعاً لما هم فيه؛ فالمغامرة المحسوبة جزء أصيل من شخصية القائد.
القائد الحق لأية مؤسسة، هو من يبحث دائماً عن التحدي لتحقيق أهداف قد يرى آخرون أنها ضرب من الخيال، بينما يرى هو أنها ممكنة التحقيق، وهو لا يرضى بمجرد تحقيق الهدف وفقط، بل يسعى لتحقيق الأهداف بكثير من التميز.
القائد عندي هو من لا يتحدث كثيراً عن إنجازاته السابقة وفقط، ولكنه فور أن ينتهي من تحقيق هدف أو مرحلة من النجاح يتطلع لتحقيق غيرها، يعيش في معركة نجاح مستمرة، وهو في هذا لا يقيس نفسه وإنجازاته بما يحيط به من مؤسسات أخرى، ولكنه في تحدٍّ مع ذاته أولاً.
القائد الحقيقي هو من يوقن بأن لدى العاملين معه ـ وليس لديه ـ طاقات يمكن تفجيرها إذا أحسن استخدام مفاتيح شخصياتهم، ويوقن كذلك بأن كل عمل يوكل لأي فرد من المحيطين به، هو عمل كبير في قيمته مهما كان بسيطاً، وأن لدى الأفراد مهما كانت درجاتهم الوظيفية، أفكاراً يجب تقديرها والاستفادة منها.
لذا فإن القائد هو من يستمع أكثر مما يتحدث، ولا يتحدث إلا بعد أن ينصت لكافة وجهات النظر دون تمييز، ويعلي مصلحة المؤسسة مها كانت قبل أن يتحيز لرأي معين، ولا يتخذ قرارات قبل أن يستشير المحيطين به، وقراراته لا تكون بالضرورة اختياراً من بدائل مطروحة أمامه، بل قد تكون مخالفة لما هو مطروح ما دامت تدعمها الحجة وقوة المنطق، وفي الوقت ذاته يملك شجاعة التراجع عن رأي أخذه ليست فيه مصلحة أو سيؤدي إلى نتائج غير طيبة للمؤسسة.
القائد الحقيقي يملك شجاعة الاعتذار إن أخطأ، فهو ليس معصوماً، وإنما هو في النهاية إنسان يخطئ ويصيب. وهذا الاعتراف عند الخطأ، من أهم مؤهلات النجاح، وهو جدار الثقة الذي يعلو يوما بعد يوم بينه وبين فريق عمله.
القائد الحقيقي لا تقتصر علاقته بالعاملين معه على بيئة العمل، بما فيها من أوامر ونواهٍ، وليس في فمه غير كلمتي: افعل ولا تفعل.. ولكن هو من يدرك أن المحيطين به بشر يفرحون أحياناً ويحزنون أخرى، لذا فهو الحريص على مشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، والبعد الإنساني حاضر في تعاملاته دائماً.
القائد الحقيقي لأية مؤسسة، هو من يقرب منه أصحاب الحكمة مهما كان اختلافه معهم، ولا يفضل أهل الثقة على أهل الخبرة، كما يدرك أن جزءاً أصيلاً من مهامه، هو صناعة قادة مؤهلين لتحمل المسؤولية من بعده، لتستمر مسيرة النجاح.
ورغم ذلك كله، أقول إن المهارات القيادية يمكن اكتسابها وتعلمها عبر تراكم الخبرات، فتلك المهارات ليست أمراً معجزاً.. فالكثير منا يستطيع أن يكتسب المهارات القيادية، ولكن قلة يصلون فيها إلى مرحلة الإبداع.
ملاحظة: المقالة منشورة في “جريدة البيان”
صفحاتنا للتواصل الاجتماعي