عندما استسلمت ألمانيا للحلفاء في العام 1945، كانت حطام دولة وشعبها محبطاً، بعد أن خسرت أكثر من 10 ملايين قتيل عسكري ومدني، وكان لا يزال 5 ملايين من أبنائها معتقلين في سيبيريا وسجون أوروبا، عدا عن مدنها التي سوّيت بالأرض وبنيتها التحتية التي دّمرت وطرقاتها التي حُرثت، ومصانعها وآلاتها وعلمائها التي حملتها قوات الحلفاء معها.
في ذلك الحين، كان جُل الشعب الألماني قد أصبح من النساء (بنسبة 82% للمرحلة من 18-40 سنة)، وارتفعت معدلات الانتحار إلى مستويات غير مسبوقة…
ولكن بعد ثلاثة شهور، علت صرخات (النهوض من القاع)، الصادرة من نساء الشعب في غيابٍ تامٍ للحكومة. وبدأت النساءُ والشيوخُ بجمع الأنقاضِ لإعادة بناء البيوت، وجَمْع الأوراق والكتب من تحت الأنقاض لفتح المدارس.
لقد لجأت النساء إلى كتابة شعارات تبثُّ الأمل، وتحثّ على العمل على حطام الجدران، مثل (لا تنتظر حقّك).. (إفعل ما تستطيع).. (إزرع الأمل قبل القمح).
وخلال الفترة الممتدة من العام 1945 وحتى العام 1955، تم إعادة بناء البيوت والطرقات والمدارس، ومن العام 1955 إلى العام 1965 تم بناء المصانع واستقبال 4 ملايين عامل من تركيا ومناطق ألمانيا الشرقية، حينئذ تغيرت الشعارات على الجدران إلى (جدية وأمل).
أما في الفترة من العام 1965 إلى 1975، فقد ظهر رجالُ الأعمال الوطنيين، وتكفّل كلٌّ منهم بتدريب 50 شاباً، فعادت ألمانيا لتصبح قوة اقتصادية عظمى.
ومع تنامي قوتها الاقتصادية، سقط (جدار برلين)، وأصبحت ألمانيا أقوى اقتصادٍ أوروبيّ، بعد أن كانت تفتقد إلى الكهرباء لتشغيل الراديو، وبعد أن كان شعبها لا يملك النقود لشراء الصحف، وكانت جدرانها المحطمة وسيلة الإعلام الوحيدة، لبثّ الأمل وخلق روح إيجابية جبّارة، مكّنت شعب مُحبط ومحطّم من أن يصنع معجزة اقتصادية عالمية.
إن هذه المقدمة كانت ضرورية للوقوف أمام كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي (رعاه الله)، التي خاطب بها ممثلي وسائل الإعلام المحلي والعالمي بعد فوز دبي بتنظيم معرض أكسبو الدولي 2020، حيث أعرب سموه عن أمله في أن تتجاوز الشعوب العربية ما قد يعترض طريقها من تحديات في سبيل تحقيق التقدم الذي تطمح إليه.
وقد شدّد سموه على أهمية توافر عناصر العزيمة والإرادة والروح الإيجابية للتغلب على المعوقات الحالية، قائلاً: “أملنا أن يسود الأمن والأمان كافة أنحاء عالمنا العربي. ونقول للدول العربية إن الإصرار والإرادة والروح الإيجابية عناصر مهمة من أجل تحقيق التطوير الإيجابي المنشود، فالنهر يواصل جريانه متجاوزاً ما قد يعتري مجراه من عراقيل، فهو يغيّر مساره ويواصل تدفقه من جديد، ونحن نتمنى كل السعادة والرخاء للجميع”.
إن التقدّم والرفاهية وحسن سياسة وإدارة الأمم تعتمد وتخاطب في الأساس الجماهير العريضة بلغة الأمل والإيجابية، التي يسندها ويقيم دعائمها المصداقية، وهي اللغة التي تستجيب وتتفاعل مع الجماهير التي يقع على عاتقها حمل الراية والإيمان بالهدف والاستقامة عليه، لتتمكن من صنع المعجزات. ولا شك أن التجربة البشرية مليئة بتلك الأمثلة الدالّة على قدرة الروح الإيجابية والطاقة الفاعلة على بناء الأوطان والمؤسسات، وتخطّي حواجز الزمن بالمقارنة مع الأمم الأخرى.
ومن خلال نظرة سريعة، وحتى من الوجهة السياسية، فإن الإنسان السعيد هو الإنسان الذي يُمكن الاعتماد عليه في بناء الأوطان، ولو كان فقيراً. ولأن مقابلة المعاني تبرزها وتوضحها، وجب ذكر النقيض، فالإنسان البائس يهدم ما حوله، ويسرّب يأسه وقنوطه وطاقته السلبية لتخرّب وتدمر ما حوله، فيصبح دون أن يدري عنصرا سلبياً يقود العجلة للخلف، حتى ولو كان مرفّها ثرياً لا ينقصه شيء. وهنا يكمن جوهر القضية ومفتاح النجاح.
إن الروح الإيجابية والمستبشرة والمحبّة والمُوقنة بالنجاح، هي التي تُحقّق النصر والتقدّم والسعادة، وتذلّل العقبات، وبها يسوّد التعاون والبهجة، وهي كنز الله “عز وجل” لعباده، لو عرفه من افتقده لحارب من أجله. ونحن في دولة الإمارات، نمتلك هذا الكنز بسبب إيماننا العميق وقيادتنا الرشيدة ودولتنا الطموحة التي وحّدها المصير والتاريخ والعقل بحكمة آبائنا العظام المؤسسين للاتحاد، بقيادة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه”.
لقد كانت البداية مع اليقين والأمل والطاقة الايجابية التي انتشرت في ربوع وأصقاع الوطن وحلّت أينما وجد الإنسان، فتحلّى بها سكان الدولة من مواطنين ومقيمين فيها، حتى بات كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة يُوقن في قرارة نفسه، أن التقدّم والرخاء واندفاع المسيرة الوطنية إلى الأمام بهذا الزخم غير المشهود، هي مثار إعجاب العالم أجمع، الذي بات يؤمن بقدرة هذه الأمة على حمل رسائل المحبة والسلام والرخاء والعلم والتعلّم لمختلف الشعوب والأمم الناظرة إلى تجربة دولتنا الفريدة، التي أصبحت بمثابة درس علمي وإداري ومعرفي، ونموذجاً مهماً يمكن للآخرين اتباعه والاستفادة منه.
إن الضرر الذي يجلبه الإنسان على نفسه وعلى من حوله نتيجة (عدم الرضا) كثيرة وخطيرة، فمثالبه تصيب صحة المرء ومحيطه الاجتماعي، وتؤدي إلى القنوط، وهو مرض أشبه بالوباء، لو انتشر وعمّ ساءت الأحوال وفقدت الآمال وانشغل الناس ببعضهم يلومون ويتلاومون، وقد كفا الله تعالى الإمارات وشعبها من هذا البلاء، وكفى بها نعمة لو كنا من الموقنين، أن نحافظ على الروح الإيجابية وننفض عنا أي شحنات سلبية.
ولا يغيب عنا أن المؤسسات كالأمم وكأي جماعة بشرية، لو حل فيها البؤس والتباؤس والتشاكس والمخالفة بين أفرادها وموظفيها، فإن جهودهم وطاقاتهم لن تنطلق من أجل النجاح والتقدم والتخطيط السليم والأداء المنجز والفعال، بل ستذهب سُداً في كيد المكائد وصك الشكاوى وتشتيت الطاقات والعزيمة لليمين واليسار والخلف، وتعيقه عن الحركة للأمام.
ولا شك أن القيادات في كافة المؤسسات هم لبنة وقلب الوطن، حيث أن الناس والسكان بطبيعتهم موزعين على مواقع العمل، ونحن شعب عامل تكاد تختفي بين صفوفه البطالة، ناهيك عن فرص العمل التي توفرها الإمارات للأشقاء العرب ولكثير من أبناء شعوب العالم على أرضها. ومن هنا، يأتي التأكيد على أهمية دور قيادات المؤسسات، لأن مسؤولية التفاعل الإيجابي وبث الطاقة الإيجابية بين الموظفين والمدراء وفرق العمل، تقع على عاتقهم بالدرجة الأولى.
لقد أسدى لنا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم “حفظه الله”، نصيحة لا تقدر بثمن بكلمته الموجزة، وهي ليست مجرّد كلمة نسمعها ثم نطرب لها وننساها، بل هي خطة عمل متكاملة، وتحتاج لمراجعة علمية دقيقة لتحديد كيفية ضبط إيقاع الحالة المعنوية والطاقة الإيجابية بين الموظفين وفي مواقع العمل وفي ميدان تقديم الخدمة للمتعاملين، فإن تعوّد الابتسامة على الرغم من بساطتها، ورسمها على وجه الموظف والمتعامل، ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى جهد دؤوب وبناء ثقافة وقدرات هائلة، لتشع على المبتسم ومن حوله طاقة إيجابية يملؤها الحب والاحترام والإيجابية، وتساعد على الإنجاز والإبداع والرضا.
ولتمكين تلك الروحية الإيجابية يتوجّب على القائد المؤسسي، أن يتحلى بروح التسامح، ويرسخ أسس الحوكمة الإدارية والعدالة، والتي من أهم ركائزها أن (يُعطي من يستحق ويمنع من لا يستحق)، وتلك الجملة وإن بدا فيها شيء من الصرامة، فإنها تساعد على المدى الطويل على تحمل المسؤولية وحماية الموظفين ذوي الطاقة الإيجابية من الانزواء، وحفظ طاقتهم متقدة معطاءة، لا تخبو جذوتها ولا ينحني عمودها، وذلك أن مقتضى العدالة إعطاء كل ذي حق حقه، وهو أمر لا يتحقق إلا من خلال التقييم العادل للإنجاز والظروف التي يعمل بها الموظف، ومدى ما أتيح له من قدرات وصلاحيات وعلوم ومعارف لينجز المهام الموكلة إليه.
كما أنه لا بد من التنويه إلى أهمية فرق العمل كإحدى أهم الوسائل التي يمكن من خلالها إطلاق أفضل مكامن وقدرات الموظفين أو البشر بشكل عام، فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي وناطق ومفكر ويملك أحاسيس وعواطف تجعله يتفاعل بطرق مختلفة مع الحلقات الاجتماعية من حوله، ومنها فرق العمل الجماعي.
ومن هنا، يتوجب على القائد المؤسسي الانتباه إلى ضرورة توفير الأجواء الإيجابية لعمل الفرق وحسن اختيار قياداتها وأعضائها، ومن ثم تمكينهم وتدريبهم على تحقيق الأهداف من خلال تعلّم فنون وديناميكيات العمل الجماعي وطبيعة التعامل الإنساني.
إن ربان السفينة الماهر هو من يتمكن من استثمار أفضل طاقات فريق عمله في شتى الظروف المؤاتية، ليتجاوز العقبات والمشاحنات والخلافات وأسباب ومكامن الطاقة السلبية التي قد تنطلق من فريق العمل الجماعي نفسه، والذي كان الهدف من وراء تأسيسه عكس ذلك تماماً، أي الاستفادة منه وتحقيق الأهداف المؤسسية، سواء كانت استراتيجية أو تشغيلية.
ولا بد من التنبيه إلى خطورة انقلاب بوصلة فرق العمل الجماعي للخلف، وهذا الأمر يبقى في صميم مسؤوليات القيادة المؤسسية العليا ومهامها، سواء عند اختيار قيادة فريق العمل، أو عند تحديد أهدافه، أو عند توفير منظومة وموارد العمل التي تكفل للفريق النجاح.
ويبقى العنصر البشري، وهو العنصر الفاعل في تلك المعادلات المختلفة، وهو الذي ينجذب ويتعاطف أو يتنافر مع أقرانه من البشر، والذي ينتج عنه مجموعة من النتائج، وهو الذي يولّد الطاقة الايجابية أو الطاقة السلبية العكسية.
وقد أوضح علماء الموارد البشرية أهمية الوعي بتلك الحقيقة عند تشكيل الفرق وتنظيمها، وهو ما يستوجب الحفاظ على أصول العمل وأجواء الاحترام والمحبة بين الموظفين ومحاربة الشائعات وإغلاق أبواب التسلق وفرص التصرف الانتهازية، وصولاً إلى تمكين بيئة محوكمة يملؤها الاحترام والتجاوب والتعاضد بين الجميع.
ولا يغفل القائد المؤسسي عن وجوب عدم جمع الأضداد ومثيري الشغب الإداري مع بعضهم البعض، أو ضمن الفرق الجماعية، والحرص على توجيه طاقات وأدوار الموظفين نحو ما يلائم قدراتهم واستيعابهم ويحقق النفع العلمي والإنجاز والرضا المادي لهم، مع السعي دائماً وأبداً إلى الحفاظ على الروح الإيجابية كقوة دافعة وطاقة هائلة قادرة بعون الله تعالى على تحقيق التقدم والرخاء للجميع وللمجتمع.
إن الرضا هو مفتاح الطاقة الإيجابية. وخير خاتمة لهذا المقال، هو قول خير البشر، سيدنا محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له”. وتلك أعظم دعوة للتفاؤل ونبذ القنوط والاستبشار بالخير.
صفحاتنا للتواصل الاجتماعي