نمرّ في رحلة الحياة بتجارب ومحطات كثيرة، تأخذنا إلى البعيد ثمّ تعود بنا إلى ضفاف البدايات، إنها سنّة الله في الخلق، نتعلم ثم ننسى ما تعلمناه ثم نعود لنتعلمه من جديد، وكأن العمر قطار يمرّ بمحطات لكل منها مناخه المختلف وخصائصه التي تطبعنا بطابعها وتعكس على شخصياتنا سماتها.
في بواكير العمر تتميز نظرتنا للحياة وللناس بأنها مبنية على قواعد البراءة والبساطة، لأن كل شيء فينا لا زال نقيّاً نظيفاً لم يتأثر بملوثات الحياة، ولم تحكمه قواعد المصالح والمنافع، صداقاتنا ومحبتنا وكرهنا مبنية كلّها على عواطفنا وعلى شعورنا بمحبة الآخرين لنا.
ثمّ يبدأ التغيير في ربيع العمر، فتختلف القواعد والأسس، وتبدأ الحسابات، وتنسج العلاقات انطلاقاً من مرجعيات جديدة، يبدأ الاختيار والاستبعاد من قوائم التفضيلات، يبدأ تبادل المصالح التي تكون بداية أشياء بسيطة تكبر معنا لتغير الطريقة التي ننظر بها إلى كل شيء ونتعامل بها مع كل شيء.
في خضم ذلك كلّه هناك ثوابت لا تتغير، وراسيات في جوهر القناعة لا يمكن زحزحتها أو خلخلتها، من بينها الأب والأم، اللذين يشكلان لنا الأساس والمرجع، هما الجذور التي إن حاولنا تطبيق حسابتنا عليها جفّت وأدت إلى فقداننا طعم الحياة.
في هذا الإطار خاطرة أعجبتني، في زحام الرسائل التي نتلقاها يومياً عبر هواتفنا الذكية ونخصص لها جزءاً لا بأس به من وقتنا، كان عنوانها(أنا وأبي قصة حياتي)، واعتقد أن كلاً منّا قد مرّ بتفاصيلها،،،
تقول الخاطرة التي أنقلها كما هي:
في عمر 4 أعوام: أبي هو الأفضل
وفي عمر 6 أعوام : أبي يعرف كل شيء وليس له مثيل
وفي عمر 10 أعوام: أبي رائع ولكنه ضيق الخلق
وفي عمر 12 عاما: أبي كان لطيفا عندما كنت صغيرا
وفي عمر 14 عاما: أبي أصبح ضدي وأصبح حساسا جدا
وفي عمر 16 عاما: أبي لايمكن أن يتماشى مع العصر الحالي ويريد مني أن أعيش زمنه
في عمر 18 عاما: أبي يبدو مع مرور كل يوم وكأنه أكثر حدّة
في عمر 20 عاما: من الصعب جدا أن أسامح أبي وأستغرب كيف استطاعت أمي أن تتحمله
في عمر 25 عاما: أبي يعترض على كل شيء أريد القيام به
في عمر 30 عاما: من الصعب جدا أن اتفق مع أبي، هل ياترى تعب جدي مع أبي عندما كان شابا.
في عمر 40 عاما :أبي رباني في هذه الحياة مع كثير من الضوابط ولا بد أن افعل نفس الشيء.
في عمر 50 عاما: من الصعب التحكم بأبنائي المراهقين، كم تكبد أبي من عناء لأجل أن يربينا ويحافظ علينا
في عمر 55 عاما: كان أبي ذا نظرة بعيدة وخطط لتحقيق مصلحتنا بكلما أوتي من جهد، أبي كان مميزا ولطيفا
في عمر 60 عاما : أبي لا مثيل له أبي هو الأفضل.
الخاتمة كانت هي ذاتها نقطة البداية، وقد استهلكنا 56 عاما من العمر لإدراكها ولنصل إلى قناعة بأن (أبي هو الأفضل).
فلنحسن الى والدينا قبل أن يفوت الأوان، فالزمن لا يعود لنعوضهم عن تقصيرنا فالإحسان إلى الوالدين من أفضل القربات التي أوصى الله عز وجل عباده بها كما جعل الإحسان إليهما مرتبطا بعبادته وحده لا شريك له.
ربَّ ارحمهما كما ربياني صغيرا.
اكتب تعليقك