تنادي القبيلة عنترة لردّ عدوان من أغار عليها، ولكن عنترة متكئ وهو يبتسم تارة ويقطّب حاجبيه تارة وهو يضغط بأصابعه بسرعة على شاشة البلاكبيري مسنجر و “بلا حرب بلا وجع رأس”، وتنتظر ليلى رؤية قيس وقد حفيت أقدامه لكثر ما “دوّخت رأسه” اقتفاءً لأثرها، ولكنه مشغولٌ بالرد على المعجبين بتغريداته الشعرية في تويتر و وضع صوره عند غروب الشمس خارج مضارب الحي على انستغرام.
لا أقصد التندّر قدر ما أود الإشارة إلى عالمٍ جديد يتشكّل حولنا ببطء ونحن غافلون، فالتغيّر الهادئ يجتث الممانعة من أصولها دون أن تشعر، ولئن كان الأب ينادي ابنه في السابق فيرد الابن : “لبيه”، فإن ذاك العهد قد انتهى، فالأب يحتاج أن ينادي عشرات المرات “لين يفور دمّه” حتى ينتبه ابنه المشغول بموبايله والذي يتبرّم وهو يكتب لمن معه على المحادثة “برب” قبل أن يرد بدون نفس على والده.
بينما أخته تتوسّل أمها لتسمح لها بالخروج لشراء حاجةٍ ضرورية ثم تذهب لدبي مول و تصوّر كوب الكابتشينو وقطعة الجاتوه وتكتب عليها “بريكفاست تايم” وتضعها على انستغرام وفيسبوك وتويتر وباث وموبايلها و (م يبقَ) إلا أن تلصقها على عباتها وشيلتها، حتى لتظن أنها حرّرت الأقصى بذلك الكابتشينو!
نحن نشهد ولادة العائلة الجديدة والتي تختلف كثيراً عن العائلة الفعلية، فعائلة الشخص أصبحت تلك المجموعة التي لا يصبر لحظة دون قراءة ما يرسلون على البلاكبيري مسنجر أو الواتساب ومحادثتهم والسمر معهم حتى و هو “منطوي” في لحافه، والذين يكونون أول من يبحث عنهم عندما يغادر قاعة السينما عندما ترى الأغلبية متسمرة خارج الأبواب وهي “تنبّش” في شاشات الموبايلات.
وهم أول من يبحث عنهم عندما يصحو صباحاً بعد أن يفتح عينيه بتثاقل لا يُنشّطها إلا برودكاست فلان أو رسالة لفلانة، ولا ينام إلا وموبايله عند رأسه وقد نام بعد أن “دار مخه” لكثرة التغريدات التي قرأها للتو، وهم من يؤنسه حتى وهو يتناول الطعام مع أسرته أو يشاهد التلفاز مع عائلته الحقيقية، بل وحتى خلال اجتماعات العمل تجد أصابعه تعبث تحت الطاولة بأزرار المحادثة!
وهم من يحركون ميوله ويُشكّلون توجهاته، فإن وجدهم يمدحون محلاً سيمدح مع المادحين، وإن رآهم يقدحون في شخص “سيغسل شراعه” معهم لا لشيء إلا لأنه لا يريد أن يكون نشازاً بين المجموعة أو العائلة الافتراضية هذه، ويستمر تشكيل التوجهات الشخصية و طبعها بسمةٍ متشابهة لنصحو فجأة و نجد الجميع يحب نشر الحكم و الأشعار على تويتر، ويحب تصوير كوب القهوة والغروب والورد الحمراء الملقية على طرف “لزوم الرومانسية في انستغرام وخُف علينا يا روميو !
إن أرقام وسائل الاتصال الاجتماعي هذه مروّعة ولا يمكن التغافل عنها أو استمرار الاعتقاد أنها مجرد “مواقع” و”تسلية وقت”، فهي محركة لتوجهات جيلٍ كامل بطريقة هادئة لكنها فعالة للغاية، فبهذا البطء الذي لا يثير ريبةً تخلق لها عالماً له طبيعته الفكرية المختلفة وسلوكياته المتميزة ومنظومته العقائدية والخلفية الخاصة به.
وهي تكوّن تجمعاتٍ عابرة للحدود في معظم الأحيان ويتم فيها تداول توجهات يسوّقها الأعلى حنكة والأفصح خطاباً والأكثر متابعة ً ليتقبلها الكثيرون رغم عدم وجود مسوّغ محليّ لها في مجتمعه أو عقيدته أو وطنه، ولكنه الشعور بعدم الرغبة في الاعتراض حتى لا يتعرض للرفض الاجتماعي من هذه “العوائل” ويقلّ عدد الـ”فولورز” أو تتناقص كمية الإعجاب و “الريتويت” بما يكتب في تلك المواقع!
لتويتر نصف مليار مشترك يُطلقون 177 مليون تغريدة يومياً، ومن كل سبعة أشخاص على الأرض شخصٌ مشترك على فيسبوك يُدخلون مليار ونصف دولار كل ثلاثة شهور على الموقع حسب آخر إحصائية، وفي “يوتيوب” يقضي مرتادوه شهرياً ما مقداره 326 ألف سنة من التصفح وبمعدل 2مليار مشاهدة يومياً لتلك المحتويات المتباينة و”المنفلتة” من كل ضابط خاصةً للجيل الناشئ سهل التشكّل والانقياد، ويتم تحميل قرابة 10 ملايين صورة يومياً على انستغرام، وحيثما ذهبت ستجد أن الحصول على صداقات أسهل من طلب شاي كرك من أي مطعم هندي !
إن المؤثرات على الأجيال السابقة كانت في أغلبها ايجابية، فهي تتمثل في الوالدين والمدرسة ورفاق الحي “الذين يتابعهم أولياء الأمور جيداً” ورسائل الإعلام المرئي والمقروء والتي لا تخرج عن العُرف والذوق السليم، بينما القدوات التي يُقدّرها المجتمع و تُنقل للجيل الجديد تتمثل في النبي صلى الله عليه و سلم وأعلام الأمّة.
وفي شخصيةٍ عظيمة كالشيخ زايد رحمه الله، أمّا في الوقت الحالي فقد انزوى تأثير الأسرة كثيراً أمام اجتياح تويتر ورفاقه وأصبح ما يقوله المغردون هناك هو المؤثر الأكبر والذي تُستثار إليه حمية الجيل الجديد تحت دعوى “كُن مستقلاً” ولا تكن “ابن البابا و الماما” وذلك طبعاً حتى تكون ابناً لذلك الناعق أو تلك المنحرفة إلا من رحم الله، وإن مجرد نظرة على تلك القدوات التي تحظى بأعلى المتابعات على تويتر ستبين أنها جمعت النطيحة والمتردية، فهم كالتالي، جستن بيبر37 مليون مُتابِع، ليدي غاغا 35 مليونا، كيتي بيري 34 مليونا.
لا أُنادي بالتضييق فذلك ليس بحل، ولا أشير للمنع فذلك محال، ولكن من المهم أن نضع خطة على مستوى أكبر تحمل بديلاً ايجابياً، أو تستطيع تقليل الأثر السلبي لهذه الوسائل وتوجيهها بما يُسهم في تقدير الجيل الجديد لقيمنا وخصوصيتنا ويُعيد الثقل بطريقةٍ أو بأخرى للعائلة الحقيقية والتي نتمنى أن يهتم الأب والأم بأبنائهم بدلاً من التسابق على مزيدٍ من “البزنس” أو “الهوامة” ليل نهار في المولات، ساعتها قد يترك عنترة البلاكبيري وينقذ قبيلته!
اكتب تعليقك